بين الانتقاد والمسؤولية.. لماذا وضعت واشنطن هونغ كونغ على قائمة مراقبة الاتجار بالبشر؟

بين الانتقاد والمسؤولية.. لماذا وضعت واشنطن هونغ كونغ على قائمة مراقبة الاتجار بالبشر؟
من احتجاج نظمته العاملات المنزليات في هونغ كونغ- أرشيف

في نهاية سبتمبر الماضي، أصدرت حكومة هونغ كونغ بيانًا رافضًا لتصنيف وزارة الخارجية الأمريكية لها ضمن قائمة المراقبة من المستوى الثاني في تقرير الاتجار بالبشر لعام 2025، ووصفت هذا التصنيف بأنه "غير منصف" ويفتقر إلى الأدلة الواقعية، إلا أن هذا الإدراج يحمل دلالات قانونية وسياسية إنسانية عميقة تكشف عن نقاط ضعف كبيرة في التشريعات والهياكل التي من المفترض أن تحمي الأفراد من الاستغلال.

يعد التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية في شأن الاتجار بالبشر (TIP Report) أداة ضغط دولية تُقيّم جهود الدول في مكافحة هذه الجريمة، وتضعها ضمن مراتب بحسب مدى التزامها بالمعايير الدنيا للحد من الاتجار. 

وفق تقرير نشرته شبكة " globalvoices" اليوم الاثنين، فإن وضع هونغ كونغ ضمن القائمة من المستوى الثاني يعبّر عن أن المدينة "لا تلبّي المعايير الدنيا للقضاء على الاتجار بالبشر، لكنها تبذل جهودًا كبيرة لتحقيق ذلك"، من الناحية العملية، هذا التصنيف لا يُفرض عليه عقوبات مباشرة، لكنه يؤثر على سمعة القطاع العام، ويمنح الدول الأخرى مبررًا لمزيد من الرقابة أو الشروط في التعاون القانوني أو التجاري.

الأسباب التي استحقت التصنيف

من أبرز الأسباب أن هونغ كونغ على الرغم من تبعيتها لجمهورية الصين الشعبية لم تُدرِج توقيعها أو التصديق على بروتوكول باليرمو الخاص بمنع الاتجار بالبشر، وهو بروتوكول مكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، اعتمد عام 2000، عدم اعتماد مدينة بهذا المصطلح الدولي يطرح فجوة حقيقية في الإطار القانوني.

الصين نفسها صَدَّقت على البروتوكول في عام 2010، ومن ضمن ذلك نطاق ماكاو، ولكن هونغ كونغ لم تفعل ذلك ضمن الإطار القانوني المحلي. 

ورغم أن هونغ كونغ لديها عدد من القوانين التي تتناول بعض أشكال الاستغلال (جرائم الفصل الجنائي، قوانين الهجرة، قوانين الاستغلال الجنسي، وغيرها)، إلا أن كثيرًا من الخبراء يرون أن هذه القوانين تفتقر إلى التكوين التجميعي والتعريفي المتوافق مع المعايير الدولية للاتجار بالبشر، فالقانون الجنائي (الفصل 129) يعالج حالة الانتقال لغرض الدعارة، لكنه لا يشمل جميع أنواع الاتجار كما عرّفها البروتوكول.

وأوضح مقال تحليلي حديث في مجلة العلوم الاجتماعية أن التشريعات في هونغ كونغ ليست متكاملة أو متسقة لتغطية كافة عناصر "الفعل، الوسيلة، الهدف" كما يطلب التعريف الدولي، كما أنه لا توجد هيئة مستقلة مكلفة بمعالجة شكاوى الضحايا أو حماية حقوقهم على نحو مستقل. 

حالات استغلال موثقة

على مدى السنوات الماضية ظهرت قضايا قضائية مثيرة للجدل تعبّر عن ضعف الحماية الفعلية، مثال ذلك قضية عامل منزلي باكستاني ("ZN") الذي هُرّب بين 2007–2010، وعمل لساعات طويلة بلا أجر، ثم رفع مراجعة قضائية ضد الحكومة لتقصيرها في الحماية، وفي 2016، حكمت المحكمة العليا بأن الإطار القانوني لمدينة هونغ كونغ غير كافٍ لمكافحة الاتجار في العمل القسري.

وكذلك قضية خادمة فلبينية ("CB") تعرضت للتحرش والاعتداء الجنسي، وأُدين صاحبها جزئيًا، لكن القضائيين لاحقًا قرروا أن التشريعات المحلية لا تغطي بشكل صريح "الاتجار الجنسي" كما في القانون الدولي، وفي 2022، حكمت المحكمة العليا لصالح الضحية بأن الشرطة أخفقت في أداء واجبها. 

كما أن تقرير وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2024 أشار إلى أن هونغ كونغ اعتُقل فيها 71 مشتبهًا في الاتجار بالبشر فيما يتعلق بالدعارة، لكنها لم تُحاكمهم بجرائم السيطرة على البغايا أو الاتجار الجنسي، ولم تُحدَّد هوية سوى ثمانية ضحايا فقط من أصل آلاف من الحالات المحتملة في 2024. 

وضع العمال المهاجرين

منذ سنوات، تواجه العاملات المنزليات الأجنبيات في هونغ كونغ قيودًا مشددة في التأشيرات تمنعهن من تغيير أصحاب العمل بحرية، مما يضعهن في حالة اعتماد على صاحب العمل مباشرة، وهذا يهيّئ أرضًا لاستغلال يُشبه الاتجار القسري، كما أن بعض المنظمات غير الحكومية التي تقدم الدعم للضحايا تعرضت لضغوط بعد فرض قانون الأمن الوطني، ما أدى إلى تراجع قدرة الضحايا على التماسك المؤسساتي.

ردَّت حكومة هونغ كونغ بسرعة على التصنيف، واصفة تقييم الولايات المتحدة بأنه "لا أساس له من الصحة"، ومؤكدة أن الاتجار بالبشر "لم يكن يومًا مشكلة واسعة الانتشار"، وأوضحت الحكومة أنها تجري فحوصات أولية على نحو متكثف، فعلى سبيل المثال أجرت حوالي 11 ألف فحص أولي عام 2023 لضحايا محتملين (زيادة بنسبة 45% على 2022)، لكنها قالت إن عدد الضحايا المُحدَّدين كان ثلاث حالات فقط.

لكن منظمات حقوق الإنسان ومن بينها تلك المختصة بالعمالة والمهاجرين تشكك في هذا الطرح، وتشير إلى أن مجرد كشف عدد قليل من الضحايا لا يعني غياب المشكلة، بل ضعف كفاءة الكشف والحماية، وتطالب هذه المنظمات حكومة هونغ كونغ بإقرار قانون شامل للاتجار بالبشر يتوافق مع المعايير الدولية، وإنشاء هيئة مستقلة لحماية الضحايا، وتوسيع صلاحيات الشرطة للتحقيق والتعاون الدولي.

منظمة العفو الدولية لم تصدر حتى الآن تقييمًا علنيًا مركّزًا على هونغ كونغ في هذا الشأن، لكن في تقاريرها العامة عن آسيا تنتقد الدول التي تكتفي بتدابير جزئية وتتفادى الالتزام بمعايير الحماية الدولية.

على المستوى الدولي، إدراج هونغ كونغ في القائمة يُعد رسالة دبلوماسية قوية، إذ يضعها في خانة الدول التي "تحتاج إلى مراقبة مكثفة وإصلاحات فورية"، ويمنح الولايات المتحدة والدول الأخرى مبررًا لفرض شروط في التعاون القانوني أو التصدي لقضايا الاتجار العابِرة للحدود.

تداعيات إنسانية وقانونية

كون هونغ كونغ مركزًا تجاريًا وإقليميًا وموقع عبور بين الصين وجنوب شرق آسيا، فإن ضعف قوانينها وممارسة الاستغلال يمكن أن تؤثر على شبكة الاتجار في العمالة القسرية، فبعض العمال يُنقَلون عبر هونغ كونغ كمحطة ترانزيت ثم يُستعبدون في دول أخرى.

من الناحية الإنسانية، يُترك الضحايا في حالة هشاشة كبيرة: بلا حماية قانونية كافية، بلا دعم نفسي أو اجتماعي مؤسسي، وغالبًا بلا القدرة على إعادة الانتظام في المجتمع، كما أن الإخفاق في تحديد الضحايا يعطّل الحق في التعويض ويحرمهم من الردع القانوني ضد المجرمين.

قانونياً، الدول التي تلتزم بالبروتوكول الدولي تُحمَّل بمسؤولية تقديم الحماية للضحايا وتعزيز التعليم والتدريب القانوني، والتعاون عبر الحدود لملاحقة الشبكات، وتعتبر هونغ كونغ، بعدم توقيعها البروتوكول وعدم وجود قانون شامل، قد تخلّت جزئيًا عن هذه المسؤولية في نظر المؤسسات الدولية.

إدراج هونغ كونغ في قائمة مراقبة الاتجار بالبشر ليس هجومًا رمزيًا فقط، بل تحذير صارخ بأن حقوق البشر في الحلقات الأدنى للنظام الاقتصادي قد تُستهان بها إذا غابت التشريعات القوية والالتزام الدولي.

في هذا المشهد، يقف الضحايا في الظل، بينما تتصارع الجهات السياسية والدولية على التأويل القانوني والضغط الدبلوماسي، وإن لم تُترجم الإدانات والتصنيفات إلى إصلاح عملي، فالسجلات ستبقى شاهدة على استغلالٍ صامت، في مدينة يزعم أنها جسر اقتصادي بين الشرق والغرب لكنّها قد تصبح أيضًا ممرًّا لتجار البشر في زمن يغرق فيه القانون الدولي أحيانًا في تعريفات غامضة وصراعات سياسية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية